هلال رمضان.. بين الفتاوى الفقهية والحسابات الفلكية
ياسين ديناربوس ياسين ديناربوس
نحن نتفرد دون مخاليق ربنا في هذا العالم كله بعدم امتلاك أجندة سنوية معروفة و محددة مسبقا ؛ و الحديث هنا عن شهور السنة الهجرية! فنحن لا نستطيع تحديد إجازاتنا قبل رؤية الهلال، ﻷن يوم العيد لا تحدده إلا العين المجردة قبل 24 ساعة أوأقل.
و نظل نضرب أخماسا بأسداس في مسألة تأكيد مواعيد العطلة أو حجز طائرة أو مواعيد امتحانات إلى غيرها من نشاطات اﻹنسان في هذه الحياة التي تحتاج أجندة تابثة مسبقا لتنظيم استعمال الزمن..
و لعل أكبر تجسيد لهذه المعضلة هي حالة التخبط الذي يعيشه ملايين المسلمين كل سنة ؛ عندما يتكرر ذاك المشهد الدرامي لترقب إعلان الشيخ الذي حباه الله بعيون زرقاء اليمامة عن رؤيته لهلال رمضان..
معضلة؟.. لماذا معضلة؟؟
ﻷن هذا يحدث في القرن الواحد والعشرين!
ﻷن هذا يحدث في زمن يتوفر فيه منظار مثل تلسكوب “هابل” الذي يرصد ما يقرب عن مليون جسم، في الوقت الذي لا يمكن للعين البشرية المجردة أن تشاهد أكثر من 6000 نجم.
لقد رفض جمهور العلماء في المدارس الفقهية اﻷربعة المشهورة رفضاً باتاً أن يعتمد المسلمون على تحديد بدايات الشهور اﻹسلامية القمرية استنادا للحسابات الفلكية و ادعوا استنادًا ﻵيات قرآنية كريمة و أحاديث نبوية شريفة أن رؤية الهلال بالعين المجردة هي بحد ذااتها السبب الشرعي ﻹثبات بداية شهر رمضان.
و ذهب الكثير من الأصوليين إلى الخلط و عدم التمييز بين علم الفلك و بين أكاذيب المنجمين المضللين الذين يدعون علم الغيب.
و اعتبروا أن الحسابات الفلكية غير دقيقة و تعتمد الحدس و التخمين و ذهب الكثير منهم إلى تكفير علماء الفلك ﻷنهم في نظرهم سحرة و مشعودون.
أو كما يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: (( شياطين الإنس )).
إن القارئ المتدبر للقرآن الكريم لايجد في كتاب الله أي آية صريحة تقول أن الرؤية بالعين المجردة هي في حد ذاتها مطلب شرعي ﻹثبات دخول شهر الصيام.
و بخصوص قوله تعالى: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
فقد اتفق أغلب المفسرين على أن كلمة شهد تعني حضر و ذلك بمعنى اﻹقامة في البلد. و ليس هناك إجماع من المفسرين على أن الرؤية البصرية مطلب شرعي للصيام استنادًا لهذه اﻵية!
بينما يختلف اﻷمر بالنسبة للسنة النبوية الشريفة، حيث نجد أحاديث عديدة يدل ظاهرها على أن الرؤية البصرية للهلال هي السبب الشرعي لوجوب الصيام.
و منها قوله صلى الله عليه وسلم:
● [ صوموا لرؤيته و أفطروا لرؤيته ]
● [ لا تصوموا تصوموا حتى تروه و لا تفطروا حتى تروه ]
لقد حملت هذه اﻷحاديث و ما شابهها الكثير على تفسيرها بأنها أمر شرعي بوجوب رؤية الهلال بصريا بالعين المجردة، كوسيلة مفروضة ﻹثبات دخول شهر رمضان.
غير أن هذا التفسير مردود عليهم، ﻷننا إذا درسنا و تفحصنا جملة اﻷحاديث المتوفرة في هذا الصدد نجد أن الرؤية البصرية ليست هي الوسيلة الوحيدة لتحديد دخول شهر رمضان و ليست مفروضة بذاتها لوجود بدائل أخرى مثل إكمال شهر رمضان أو شهر شعبان 30 يوماً و مثل تحديد بداية الشهر بالتقدير كما ورد في حديثه صلى الله عليه وسلم:
● [ فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ]
● [ فإن غم عليكم فاقدروا له ]
و هو ما فسره الفقهاء بمعنى ضيقوا الشهر أو قدروا الشهر.
إذن الرؤية البصرية ليست شرطا و إلا لما كان هناك حلول و اختيارات أخرى!
إن اﻷحاديث النبوية تستهدف في حقيقتها اليقين عند الدخول في العبادة و اليقين عند الخروج منها.
فيجب فهمها بلازم المعنى و ليس بظاهره. لقد كان اﻷمر النبوي بتحري هلال رمضان بالعين المجردة هو أفضل و أدق ما يمكن أن يفعله الناس في العهد النبوي.
و ما كان أمره صلى الله عليه وسلم إلى وسيلة لمعرفة الحقيقة و ليس غاية في ذاته
و التمسك بفهم ظاهر نص الحديث النبوي بعدما تقدمت الوسائل العلمية و أصبحت الحسابات الفلكية على درجة عالية من الدقة ما هو إلا تقديس بغير مكانه و تعطيل للعقل الذي حرص الرسول على إيقاظه.
و ليس المقصود هنا مخالفة أو تعطيل السنة – كما يفهم ذلك أصحاب العقول المتحجرة و عبدة الجمود – إنما المغزى هو تنفيذ روح السنة و اﻹلتزام بجوهرها على ضوء التطور العلمي و المعرفي.
إن اﻹلتزام الحرفي بالنصوص بدون عرضها على العلم الحديث بما فيه الفلك، يأتي بما لا تحمد عقباه! بل يجعلنا في غالب الأحيان عرضة لسخرية الملاحدة و أعداء هذا الدين الحنيف.
هل تعلمون أننا و في عصر يمشي فيه اﻹنسان على سطح القمر، يخرج منا قوم لا يؤمنون بأبسط بديهيات علم الفلك اﻷساسية؟
فدوران اﻷرض حول الشمس و الذي أثبته “كوبرنيكوس” منذ حوالي خمسة قرون و حوكم من أجله “غاليليو” حتى أصبح من أساسيات المعرفة اﻹنسانية ككل و ليس علم الفلك فقط، هو قول يكفر بموجبه صاحبه!!.. و يستثاب أو يقتل!!!
نعم يا سادة!
هذا ما جاء في فتوى الشيخ “ابن باز” مفتي الديار السعودي و هذا نص فتواه التي نشرتها الرئاسة العامة عام 1976م:
(( إنَّ القول بأن الشمس ثابتة وأن الأرض دائرة هو قولٌ شنيعٌ ومنكر، ومن قال بدوران الأرض وعدم جريان الشمس فقد كفر وضل، ويجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتدا، ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين ))
وقد نشرت الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض في عام 1402 هـ/1982م كتاباً من تأليف سماحته! جمع فيه ما يخيَّل إليه أنه أدلة نقلية على سكون الأرض.
و الكارثة الكبرى أنه – رحمه الله على كل حال و غفر له – استند إلى قوله هذا إلى آيات من القرآن الكريم و أحاديث نبوية شريفة.
يا لها من مصيبة!!!
هذا ما ينتج جراء تقديس روايات تدبرات السلف الصالح من أمثال “ابن تيمية” و “ابن كثير” و “ابن القيم” الذين أجمعوا على ثبوت الأرض!
لقد كانت آرائهم هذه وليدة زمانها و نتاجا ﻷرضيتها المعرفية و لا لوم عليهم في الخطأ آنذاك.. إنما اللوم كل اللوم على من جمدوا عقولهم و أبوا إلا أن يتعبدوا بالموروث و التراث الفقهي معرضين عن ما تقدمه العلوم التجريبية و الفلكية و غيرها من المستجدات العلمية المعاصرة فقط بدعوى أن أولئك العلماء كفرة بالله..!
لﻷسف.. لقد حمل هؤلاء مشعل تكفير”غاليليو” بعد أن تنازلت الكنيسة عن ذلك و اعتذرت له..
لعل أكبر التناقضات التي نعيشها هي أننا نعتمد على الحسابات الفلكية في مسائل لاتقل أهمية عن الصوم، من أهمها مواقيت الصلاة. أما بخصوص رؤية الهلال فيصبح الفلكي غير شرعي.. و لو اختلفت الحسابات الفلكية مع الرؤية البصرية قدمنا هذه اﻷخيرة بدون تواني أو تفكير.
حري بنا إذن أن نحترم موقفنا هذا و أن لا نقوم بتحديد مواقيت الصلاة استنادًا للحسابات الفلكية؛ و نقوم بذلك على طريقة السلف الصالح، أي أن الظهر يبدأ من زوال الشمس عن وسط السماء و يمتد إلى أن يصبح ضل كل شيء مثله.
أما وقت صلاة المغرب سنعرفه إن غابت الشمس و توارت بالحجاب حتى مغيب الشفق اﻷحمر...
إليكم نبذة سريعة عن دقة الحساب الفلكي في عصرنا الحالي و الذي يصر شيوخ الكهنوت و اﻹنغلاق على أن لا نستعمله في تحديد بداية شهر رمضان:
إن عيون المراصد الفلكية المتطورة أصبحت اليوم قادرة على التعمق في أغوار الكون الواسعة لمسافة 15 ألف مليون سنة ضوئية.
و السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء خلال مدة زمنية قدرها سنة كاملة. و بما أن سرعة الضوء هي حوالي 300 ألف كيلومتر في الثانية فهو يقطع في السنة مسافة قدرها 9460800000000 كيلومتر.. أي أن السنة الضوئية هي 9.46 تريليون كيلومتر أو 5.88 تريليون ميل!!
و لا تنسى عزيزي القارئ أن تضرب هذا الرقم في 15 ألف مليون.
و إن كنتم قد ربطتم أحزمة أمان عقولكم إليكم هذه المفاجأة:
لنتخيل أن الله عز وجل أعطاكم طول العمر ( و هذا ما أتمناه ) لكي تعيشوا لغاية خمسة آلاف مليون سنة من اﻵن..
و أنتم اﻵن في زيارة لعاصمة الضباب..
ستكتشفون أن الساعة “بيغ بن” الشهيرة قد تم استبدالها بأخرى تحتوي على 36 ساعة في محيطها الدائري و ليس 24!!
لماذا؟
ﻷن دوران اﻷرض حول نفسها يقل يوميا و ينعكس ذلك على إبطاء الزمن مما يجعل يومنا أقصر من غدنا بحوالي 25 جزء من ألف مليون جزء من الثانية.
هذه المعلومات تصدمنا كأناس غير متخصصين لكنها تعتبر من البديهيات بالنسبة لعلماء الفلك المعاصرين الذين يحسبون ما هو أعقد و أدق من ذلك بكثير..
و لنذهب أبعد من ذلك و نقول للذين يشككون في صحة المعادلات الفلكية و نتائجها: مارأيكم في أن كوكبين من كواكب المجرة الشمسية و هما “بلوتو” و “نبتون” قد اكتشفا بواسطة الحسابات الفلكية قبل تبوث رؤيتهما و تحديد مكانهما بالمناظير الفلكية؟
ليتنا تدبرنا اﻷمر اﻹلهي { إقرأ } و غصنا في معناه الحقيقي العميق..
ليتنا قرأنا الكون المنظور كما قرأنا كتاب الله المسطور!
لقد أصبح لزاما علينا أن نكتشف سنن الله في كونه و طبيعته ونسخرها لما فيه اﻹنسانية..
بل إن شئتم الدقة.. أصبحنا مجبرين على اللحاق بقطار التقدم العلمي ﻷنه لن ينتظرنا أبداً..
و هذا لن يتأتى إلا بإعطاء هذا العقل الذي حبانا به الله حقه، و احترامه باﻷخذ بعين الاعتبار كل ما توصل إليه العلم من حقائق و نظريات.
العقل يتنبأ استنادًا لمعطيات و قوانين تابثة و لا يرجم بالغيب..
و العلم بالتأكيد ليس إلا فتحا لﻵفاق و قراءة في المستقبل..
قال “غاليليو” قديماً:
(( قد كتبت الطبيعية كتابها المجيد بلغة المعادلات الرياضيات ))
و مازلنا نحن نقول:
(( قد كتبتها بلغة الفتاوى الفقهية ))
من اراد أن يتأكد من موعد بداية رمضان فليذهب إلى Google وليكتب في خانة البحث أو مستطيل البحث العبارة التالية بالإنجليزية:
Moon Phases Calender 2014.
ثم يكتب اسم بلده ليظهر له مواعيد تكون الشهر ونهايته وبذلك لا يحتاج من يرى له ويفتي بموعد صيامه.
أسأل الله أن يكون شهر عبادة مقبولة وأن يرد فيه الأمة إلى ما يحب ويرضى.
إن أصبت فمن الله سبحانه وتعالى وإن أُخطأت فمن نفسي والشيطان.
هذه وجهة نظري وليس ملزوم بها كل من قرأ مقالي.
شاركنا بتعليقك المميز فهو يشجعنا ويساعد على الاستمرار